قدّم أمين التهراوي، وزير الصحة والحماية الاجتماعية، خلال جلسة الأسئلة الشفوية بمجلس المستشارين، عرضاً شاملاً حول التقدم المحرز في إصلاح المنظومة الصحية، مركزاً على ثلاثة محاور أساسية شغلت أسئلة المستشارين: تعميم تجربة المجموعات الصحية الترابية وتقييمها، سد الخصاص في الموارد البشرية وتحفيزها، وضمان توفر الأدوية والمنتجات الصحية وجودتها.
المجموعات الصحية الترابية: رافعة لإعادة تنظيم العرض الصحي وتقريب القرار
أكد الوزير أن إحداث المجموعات الصحية الترابية يشكل أحد أعمدة الإصلاح العميق الذي تشهده المنظومة الصحية الوطنية، تنفيذاً للتوجيهات الملكية السامية، وتنزيلاً لمقتضيات القانون-الإطار رقم 06.22، وبانسجام تام مع ورش الجهوية المتقدمة. وفي هذا السياق، تُعتبر هذه المجموعات، التي يؤطرها القانون رقم 08.22، آلية جديدة لإعادة هيكلة العرض الصحي على المستوى الجهوي، وتدبير مسار علاجي مندمج وفعّال، وتقريب القرار الصحي من المواطن.
وأوضح التهراوي أن الوزارة استكملت مختلف النصوص التطبيقية المؤطرة لإحداث هذه المجموعات، مبرزا أن أول تجربة نموذجية تم إطلاقها بجهة طنجة – تطوان – الحسيمة، وهي التجربة التي شهدت انعقاد أول مجلس إدارة في يوليوز 2025، وانطلاق ممارسة الاختصاصات الفعلية ابتداءً من فاتح أكتوبر من السنة نفسها.
وتتوفر المجموعة النموذجية داخل مؤسسة عمومية واحدة، على مستشفى جامعي و22 مستشفى و295 مركزاً صحياً، إضافة إلى ما يقارب 7.000 مهني صحي. وقد مكن هذا التجميع المؤسسي من تنظيم أفضل لمسارات العلاج بين مستويات الرعاية المختلفة، وتدبير موحد للموارد البشرية، وتحسين التنسيق بين المؤسسات الصحية داخل الجهة.
وسجلت التجربة الأولى مؤشرات إيجابية أولية، شملت تقليص آجال التدبير، وتسريع وتيرة اتخاذ القرار الجهوي، وتعزيز الانسجام بين مكونات العرض الصحي، إلى جانب وضع نظام معلوماتي جهوي موحد لتتبع المسار العلاجي للمريض.
تعميم تدريجي قائم على تقييم مواكب
وبخصوص آفاق التعميم، أوضح الوزير أن العملية تتم وفق مقاربة تدريجية ومسؤولة، قوامها تثبيت التجربة النموذجية واستخلاص الدروس الميدانية منها. وقد تم إطلاق الأشغال التحضيرية لتعميم النموذج، من خلال إعداد الميزانيات الجهوية، وتحديد خرائط المسارات العلاجية، واعتماد دليل عملي (Kit de lancement) لتسهيل إحداث المجموعات في باقي الجهات.
وشدد التهراوي على أن مبدأ الإحداث قد تم الحسم فيه تشريعياً، وأن التقييم المعتمد هو تقييم مواكب يهدف إلى تحسين التنزيل ومعالجة الإكراهات وتسريع التنفيذ، وليس عائقاً أو شرطاً لتأجيل التعميم، مؤكداً أن تعميم النموذج سيتم خلال سنة 2026 وفق جاهزية كل جهة.
كما أبرز التزام الوزارة بمواصلة التشاور والحوار مع مختلف الشركاء قبل إطلاق أي مجموعة جديدة، بما يسمح بتجويد التنفيذ وضمان تملك جماعي لهذا الإصلاح الهيكلي.
الموارد البشرية: إصلاح جذري لتحفيز واستقطاب وتوزيع الكفاءات
وفي جوابه حول الخصاص المهول في الموارد البشرية الصحية والتوزيع غير المتوازن، أكد الوزير أن الإشكال يعود لتراكمات سنوات طويلة، ولا يمكن معالجته بإجراءات ظرفية، بل بإصلاح هيكلي عميق يرتكز على ثلاثة محاور: التحفيز، رفع التكوين، والتوزيع العادل.
وأشار التهراوي إلى مكاسب مهمة تم تحقيقها بفضل الحوار الاجتماعي المسؤول، من أبرزها الزيادات الشهرية الصافية: 4.390 درهماً للأطباء العامين والصيادلة وأطباء الأسنان، و4.405 درهماً للأطباء المتخصصين، و1.950 درهماً للممرضين وتقنيي الصحة، و1.750 درهماً للأطر الإدارية، و1.700 درهم للأعوان التقنيين.
كما تم اعتماد إطار تشريعي وهيكلي جديد عبر القانون رقم 09.22 المتعلق بالوظيفة الصحية، والذي يؤسس لنظام أجور يجمع بين جزء ثابت وآخر متغير مرتبط بالأداء، مع تعويضات خاصة بالمناطق الصعبة.
وفي جانب سد الخصاص عدداً وتمكيناً، تم إحداث 4 كليات جديدة للطب والصيدلة، ليرتفع عددها وطنياً إلى 9 كليات، مع رفع الطاقة الاستيعابية من 2.700 طالب سنة 2021 إلى 6.500 سنة 2025، أي بزيادة 142%.
وعلى مستوى التوظيف، أحدثت 6.500 منصب مالي سنة 2025، مع برمجة 8.000 منصب خلال 2026. وقد انعكست هذه الجهود على المؤشرات الوطنية، حيث ارتفع معدل مهنيي الصحة إلى 2,05 لكل 1.000 نسمة، مقابل 1,75 قبل خمس سنوات.
التوزيع العادل وجاذبية المناطق الصعبة
وفي إطار العدالة الصحية، أوضح الوزير أن نسبة تعيين الأطباء المتخصصين في المناطق القروية والصعبة بلغت 52% سنة 2024، ويرتقب أن تصل إلى 70% نهاية 2025 و72% سنة 2026، موازاة مع إجراءات تحفيزية سيتم تفعيلها عبر النصوص التنظيمية المتعلقة بالعمل في المناطق النائية.
ضمان توفر الأدوية وجودتها: حجر أساس في الأمن الصحي
وفي موضوع آخر، شدد الوزير على أن ضمان توفر الأدوية والمنتجات الصحية وجودتها وسلامتها خيار استراتيجي يلامس الأمن الصحي وثقة المواطنات والمواطنين.
وأوضح التهراوي أنه تم إحداث الوكالة المغربية للأدوية والمنتجات الصحية بموجب القانون رقم 10.22، بهدف تعزيز الحكامة وتسريع الترخيص والمراقبة وتتبع المخزون، ودعم الصناعة الوطنية وتشجيع الابتكار.
كما يجري إطلاق ورش رقمنة تراخيص التسويق وتعزيز أنظمة اليقظة الدوائية، بما يسمح بانتقال نوعي نحو نظام دوائي حديث وشفاف.
وفي السياق نفسه، تعمل الوكالة على إحداث مرصد وطني للأدوية، لتمكين الدولة من رصد مبكر لاختلالات التزويد، ومتابعة الأسعار، ودعم القرارات الطبية والإدارية بمعطيات دقيقة.
وأشار الوزير إلى ورش وطني جديد لإصلاح منظومة التموين عبر منصة لوجستيكية موحدة، تعتمد مستودعات جهوية مترابطة وأنظمة معلوماتية لتدبير المخزون والتوزيع، سيتم تنزيله خلال 18 شهراً لما له من أثر في تقليص الهدر وتحسين تدفق الإمدادات.
أما على المدى القصير، فقد تم إطلاق مخطط استعجالي ضمن برنامج دعم المنظومة الصحية (PRS)، همّ إعادة تكوين المخزون الاستراتيجي، وتسريع التزويد، خصوصاً لفائدة المناطق الباردة التي استفادت ضمن عملية “رعاية 2025–2026” من إرسال أكثر من 23 طناً من الأدوية والمستلزمات.
الإصلاح حقيقي لكنه يحتاج وقتاً
وفي ختام عرضه، أكد أمين التهراوي أن الإصلاحات الجارية ليست تعديلات شكلية أو حلولاً ظرفية، بل مسارات إصلاحية تُعيد بناء الأسس: تكوين أكبر عدد من المهنيين، وتدبير ترابي متقدم للموارد، وإرساء سيادة دوائية وضمان الاستمرارية والعدالة في الولوج للخدمات الصحية.
وأضاف أن الحكومة اختارت مساراً أصعب لكنه الأنجع، وهو بناء إصلاح مستدام يحمي حق المواطن في الصحة، ويجعل المنظومة أكثر إنصافاً وفعالية وقرباً من المواطن، مؤكداً أن النتائج ستتجلى تدريجياً خلال السنوات المقبلة.




