للغات الطبيعية على مر العصور تاريخ لساني دينامي تنعكس عليه بنى الواقع والمجتمع بتحولاتها الخاصة التي تستتبع نقاشات تشمل أسئلة التداول والخصوصية اللغويين في علاقتهما بالتعدد الثقافي اللذين يثيران إجابات متفاوتة من عصر إلى آخر، حيث تم ربط اللغة بالهوية بامتداداتها المتصلة بالوحدة العرقية أو الدينية أو السياسية، وكل ما من شأنه أن يقسم اللغات إلى لغات قوية وتليدة وأخرى ضعيفة ووضيعة، موازاة مع تقسيم الناس إلى فئات لغوية متنوعة يحترس بعضها من بعض مخافة الاختراق والاندماج المفروضين.
ضمن هذا الإطار توجهت الجهود داخل الحقل اللساني المغربي إلى بحث علاقة اللغة العربية الفصحى بغيرها من الأنساق المستعملة في التداول اللغوي، كالنسق الأمازيغي، والنسق الدارج، والنسق الحساني، والنسق اللغوي الفرنسي، وذلك من أجل التفكير في الأدوات التي ستسعف في تنمية اللغة العربية الفصحى بعد إعادة النظر في وضعها داخل المحيط الكوني عامة والمغربي خاصة.
ولعل الأصل في مقاربة مكانة اللغة العربية في منظومة حياة المغاربة، مركزها الجوهري في معيشهم اليومي ومسلكيات نظم حياتهم العامة، والمحكوم بالعيش المشترك وروافد ُهويتهم الجماعية الضاربة في عمق التاريخ.
واذا كان العرب قد انطلقوا منذ وقت مبكر في تصورهم الحضاري من مبدأ تلاقح اللغات والثقافات، ومن ثم سمحوا للغة العربية بالدخول في حوار مع لغات أخرى، وذلك من أجل مواجهة الأسئلة الحارقة، ومواصلة التفاعل بين اللغة والفكر، مما أثمر تراثا فكريا عربيا واسلاميا غنيا على أيدي لغويين وفلاسفة
من قبيل: الفراهيدي وسيبويه والفارابي وابن سينا وابن رشد…، ممن تفاعلوا مع الفكر الأجنبي الهندي أو الفارسي أو اليوناني تلخيصا أو شرحا أو تأويلا، فأنتجوا صرحا لغويا وفلسفيا عربيا أصيلا وعتيدا يقبل المُدارسة والبحث، بعيدا عن المواقف الرافضة للتبحر في لعلوم بذريعة تهمة الفسوق والخروج عن الملة فإن أزمة التعبير عن العصر وعلومه وآدابه ليست مشكلة في اللغة العربية، بقدر ما هي أزمة ومشكلة في الإنسان المستعمل لها، لأنه هو المعني بها والقادر على الزيادة من شأنها أو إضعاف قيمتها، انطلاقا من سياساته اللغوية أو خططه العلمية على المديين المتوسط والبعيد. لذلك فالقول إن اللغة العربية لغة عاجزة هو حكم قيمة، وأن ليس في العربية ما يقابل المصطلح الغربي جهل مركب، وأن لغة تفاضل لغة وهم إيديولوجي، وأن هناك خطرا لغويا يتهدد هويتنا هو فقط في مخيلة أصحاب «نظرية المؤامرة»، والهاربين من النقاش العلمي الحقيقي الذي ينبغي أن يسود حتى نستطيع الخروج من هذا السجال الايديولوجي السطحي الاستغلالي الذي نعيشه الآن، سواء في وجهه الاسلاموي أو العروبي، الذي يتكلم أكثر مما ينتج، ويهدم أكثر مما يبني.
ولا غرو اليوم من حسم نقاش مكانة اللغة العربية في بلادنا، بين ُمدافع عن مركزها المحفوظ، ومنافح عن تعددية لغوية تفرضها مسايرة العالم وشروط الانفتاح، بإعمال مبدأ حاجة البلاد إلى أنموذج تنموي ولغوي قادر على التكيف مع التحولات المتسارعة، في احترام تام لهوية المجتمع ولقيمه الحضارية، ولمبدأ
السيادة الوطنية في اعتماد القرارات التي تتوافق مع اختيارات وتوجهات بلادنا.
ذلك أن كل سياسة لغوية وثقافية يراد بها النهوض بالمجتمع لابد أن تتحاشى فرض الأحادية، وتبحث بدلها عن الخيار التعددي الذي يضمن تعايش الألسن التي يرتضيها الجميع ويتوافق عليها، ضمانا للوئام والوحدة الوطنيين المبنيين على وحدة الرموز الوطنية ومعطيات التاريخ والهوية.
لقد دأب المغاربة على تدبير خلافاتهم بحكمة وروية مشهودتين، حققتا نتائج ُمعتبرة في عدد من الملفات، ولا يضير في شيء أن ترشح بين الحين والآخر ملفات أخرى تستأثر باهتمام النخبة، لاسيما تلك التي
تتصل منها بحياة الناس اليومية، والتي تقتضي قدرا من التجرد في معالجتها من دون الارتكان إلى مرجعيات إيديولوجية لاتلزم العامة في شيء.
لذلك ومن منطلق الإيمان بالتعدد اللغوي في المغرب وتنوعه، نرى في حزب التجمع الوطني للأحرار أنه من الضروري الابتعاد في مناقشة الوضع اللغوي الوطني عن الخلفيات الإيديولوجية، إضافة إلى استبدال استراتيجية التعريب الشامل، باستراتيجية تقوم في جوهرها على تطوير اللغة العربية وتأهيلها من الداخل،ذلك أن هذا المسار كفيل بأن يمنحها القوة والدعم الكافيين ليس فقط في منظومتنا التعليمية بل في سائر مناحي حياتنا العامة، بما في ذلك الكتابة بها في معاملاتنا البنكية، وأنشطتنا الاقتصادية وتواصلنا بشكل عام إن حماية اللغة العربية ينبغي أن تتم عبر التشريعات اللغوية الملزمة التي تشمل سلامة كتابتها ونطقها، وصيانتها من الشوائب.
ولعل مؤسسة كالمجلس الوطني للغات والثقافات يمكنها أن تضطلع بهذا الدور
وتزكي التشريعات للحد من مظاهر التسيب اللغوي الذي بتنا نطالعه في أكثر من واجهة وفي أكثر من مكان، بما في ذلك برامج المقررات الدراسية، ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وخطاب الإشهار داخل المؤسسات أو الأماكن العامة.
ونحن على اقتناع بأن تدبير السلوك اللغوي في مجتمعنا المغربي لا يمكن أن يؤدي نتائجه المتوخاة ما لم يكن مندمجا في صلب النموذج التنموي الجديد والمشروع المجتمعي الذي نطمح إلى تحقيقه، والذي
يقوم – أولا – على ضرورة حماية اللغات الرسمية عبر التمكين لها في المؤسسات والمجتمع برمته، ودعم مشاريع تنميتها وتأهيلها لتخوض غمار التنافس. ويقوم – ثانيا – على ضرورة النظر إلى هذه اللغة من خلال التنوع اللغوي في المغرب، وهو تنوع يمنحها امتياز اللغة الداعمة لوحدتنا الوطنية، ويمنح اللغات الأخرى مجالا وسوقا للتداول، ويفتحها أيضا على مجالات ومعارف وقيم عديدة ومتنوعة تدعمها المدرسة ومراكز التكوين والبحث العلمي.
وما من شك اليوم في أن تقاطع – ولا نقول الصراع أو التدافع- اللغوي في بلدنا يقدم تجربة فريدة، تنتظر من الباحثين في السوسيولسانيات؛ استخلاص آثاره على موروثنا اللغوي والثقافي عموما، وكذا تبعاته وقيمته في سوق تداول أسهمه الرمزية في المجتمع.
من هذا المنطلق نقترح في حزب التجمع الوطني للأحرار العمل من أجل:
تكثيف التفاعل بين الفصحى والعربية المتداولة في بلادنا والتي يطغى استعمالها في الحياة العامة ويتخذ معجمها مواصفات تختلف عن مضامين ومعاني المعجم المقروء والمكتوب للفصحى.
تكثيف التفاعل بين تنمية اللغة العربية وبين مختلف المكونات الاقتصادية الإنتاجية والتواصلية والحقوقية والقانونية، لأن كل هذه المكونات ستساعد على توفير الشروط المناسبة لها،حتى تُنمى وتنتشر وتندمج على المستوى العلمي والاقتصادي، كما ستساعد من جهة ثانية على الانخراط في ورش التنمية الكبير الذي تعرفه بلدنا.
التخلص من عقدة النقص التي يعانيها بعض من لا يحسن اللغة العربية، وكذا بعض المتشددين والمتحمسين لها، من الذين يكتفون بالبكاء والشكوى من التآمر على هذه اللغة؛ بل والمبالغة في هذا التآمر لحد يجعل خطابهم قريبا من الخطاب الديماغوجي الذي تحكمه الإيديولوجية العمياء.
تأهيل اللغة العربية من طرف المجامع اللغوية ومراكز تعليم اللغة والدوائر المهتمة باللغويات لتخضع لمتطلبات المعالجة الآلية للمعلوميات وتكنولوجيات الاتصال الحديثة وتطّوعها.
تسخير الآلة للتعامل مع اللغة العربية وخصائصها النحوية والدلالية عبر آليتي التوليد والاشتقاق، انطلاقا من إعداد برامج حاسوبية خاصة.
إسناد أمر الحسم في الشأن اللغوي الوطني للمتخصصين في البحث اللساني دون غيرهم ممن يهتمون باللغة لأغراض غير علمية.
الدفع باللغة العربية إلى مجالات العلوم الدقيقة لتتملك أدواتها الفكرية واجراءاتها التحليلية التي من شأنها تنمية مفردات اللغة العربية وتطويرها.
إنتاج برامج ثقافية وعلمية محلية أو مترجمة إلى اللغة العربية، من أجل تنمية الثروة اللغوية لمستعملي هذه اللغة.