مداخلة السيد وديع بنعبد الله بلجنة المالية والتنمية الإقتصادية خلال المناقشة العامة لمشروع قانون المالية برسم سنة 2016
الخميس, 29 أكتوبر, 2015 -00:10
الأربعاء 28 أكتوبر 2016
السيد الرئيس،
السيدين الوزيرين،
السيدات والسادة النواب المحترمين،
يسعدني أن أتناول الكلمة باسم فريق التجمع الوطني للأحرار لمناقشة ومقاربة تجليات وأبعاد مشروع قانون المالي للسنة المالية 2016.
تجدر الإشارة أن مشروع القانون المالي 2016 يأتي في سياق خاص واستثنائي، يعرف تحولات وديناميات على مستويات عدة : سياسية واجتماعية واقتصادية ومالية.
أيضا يعتبر مشروع القانون المالي هذا آخر مشروع، بالنظر لتزامنه مع السنة الأخيرة في الولاية النيابية الحالية. هذه السنة التي تطرح علينا رهانات وتحديات، تتجلى أساسا في التنزيل الفعلي لمضامين البرنامج الحكومي، بما فيها القوانين التنظيمية طبقا للفصل 86 من الدستور.
كما يطبع هذا السياق مجموعة من الأوراش والإصلاحات التي عرفتها بلادنا، وأخص بالذكر الإصلاحات المتعلقة بنجاعة وشفافية المالية العمومية.
وفي هذا السياق لا ولن ننسى الظرفية التي تسلم فيها التجمع الوطني للأحرار مسؤولياته داخل الحكومة في نسختها الحالية، في ظل متغيرات سياسية خاصة وظرفية اقتصادية عالمية وإقليمية مضطربة، تمت مواجهة مجموعة من التحديات بحدة، وفي مقدمتها استعادة التوازنات الماكرواقتصادية ووقف النزيف، وبالخصوص استعادة الثقة في اقتصادنا الوطني. ويكفي أن نذكر بالأرقام بلوغ مستوى عجز كل من الميزانية والحساب الجاري لميزان الأداءات ذروته خلال سنة 2012، بنسب بلغت على التوالي 7,2% و9,5% من الناتج الداخلي الخام .
أيضا يتزامن هذا المشروع مع مخرجات الاستحقاقات الانتخابية التي عرفتها بلادنا، والتي انبثقت عنها مؤسسات منتخبة على المستويات المحلية والإقليمية والجهوية، بحيث توج هذا المسار الاستحقاقي بانتخاب أعضاء مجلس المستشارين، وفقا للمقتضيات الدستورية. هذا المسلسل الانتخابي الذي عرف مشاركة قوية للناخبين والذي فاق كل التوقعات، مما يعني أن المواطن بدأ يستشعر مسؤوليته ويسترجع ثقته في المؤسسات .
وتنزيل القانون التنظيمي لقانون المالية المؤطر لمشروع القانون المالي 2016، ما هو إلا ترجمة عملية لوظيفة المؤسسات، التي تضطلع بمهامها، من أجل التفاعل والتجاوب مع تطلعات وانتظارات المواطنين والمواطنات.
وبهذا نقول أن الحصيلة الايجابية للحكومة في المجال الاقتصادي شكلت إحدى العوامل والعناصر المباشرة للنتائج، التي حصلت عليها الأغلبية خلال الاستحقاقات الأخيرة.
هذا المسلسل الانتخابي أنتج لنا الإطار المؤسساتي والقانوني لإعادة هيكلة المنظومة الجهوية، بحيث أن المغرب دخل مرحلة جديدة لتفعيل أبعاد الجهوية المتقدمة، من خلال الآليات القانونية والصلاحيات المؤسساتية التي منحت للجماعات الترابية. مما يكرس منهجية جديدة لوظائف الجهات ودورها الاستراتيجي في ترسيخ أسس التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتقليص الفوارق المجالية.
وهذا يطرح علينا جميعا استحضار البعد الجهوي لترجمة السياسات العمومية، ومقاربة ميزانية الدولة من خلال التكريس الفعلي للمنظور الجهوي، لبلورة سلطة جهوية حقيقية، كما نادى بذلك حزب التجمع الوطني للأحرار في عدة مناسبات.
لهذا نعتبر في فريقنا أن الجهوية المتقدمة تشكل خيارا استراتيجيا للمملكة المغربية، كما تعتبر إحدى روافد الديمقراطية المحلية، القائمة على إشراك المواطن في تدبير الشأن العام المحلي عبر الآلية الانتخابية، وكأداة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في النطاق الجغرافي والترابي الذي تجسده. وذلك لتجاوز إشكالية التفاوت الاقتصادي بين الجهات، من أجل خلق توازن على مستوى تفعيل استراتيجيات التنمية، ومعالجة المشاكل الاجتماعية على مستوى التشغيل والسكن والتعليم وتكافؤ الفرص.
وهو ما ينسجم بشكل وثيق، حضرات السيدات والسادة، مع إعادة تموقع الدولة كناظم وضابط لآليات التوازنات الماكرواقتصادية، وضامن للتوازن والتضامن والتعاون بين الجهات، بما يحقق التقليص من حجم المركزية وتكلفتها الاقتصادية، ويمنح الفاعلين رؤية واضحة للمشاريع التنموية الجهوية المتنافسة، عوض النموذج التقليدي الذي لا يستجيب لمنطق التوطين الترابي لوسائل وفرص التنمية محليا وجهويا.
إن الجهوية المتقدمة كإطار استراتيجي من شأنه تحديث هياكل الدولة المغربية العصرية، تشكل أحد الأوراش الكبرى التي تعبأت لها مجموع القوى الحية في البلاد، وتؤسس لمرحلة هامة في إطار مسلسل تعميق الممارسة الديمقراطية على الصعيد الجهوي، مما سيمكن المواطنين من تدبير شؤونهم والمساهمة في التنمية المندمجة للجهات التي يقيمون بها. وبذلك يكون هذا الورش ذرعا قويا أمام مناورات خصوم الوحدة الترابية، من أجل مواجهة المخططات الاستفزازية التي تهدف إلى التشكيك في جدية مقترح الحكم الذاتي لأقاليمنا الجنوبية الذي يحظى بالجدية والمصداقية من مجلس الأمن والدول العظمى.
وهذا التوجه الذي أقدم فيه ملامح فلسفة التجمع الوطني للأحرار بخصوص هذا الورش المهيكل المتعلق بالجهوية المتقدمة هو توجه – السيدين الوزيرين المحترمين- يجد مبرراته ودلالته في التحديات التي تطرحها العولمة الاقتصادية. فبقدر ما تتقلص أدوار الدول في المجال الاقتصادي، فذلك نتيجته الحتمية تقلص مجالات وفرص تأثيرها في تحديد الاختيارات الاقتصادية، وهو ما ينجم عنه بالأساس ظهور فاعلين مجسدين في الهيئات المنتخبة من برلمانيين ومنتخبي الجماعات الترابية، ثم فاعلين جدد أكثر تأثيرا وفعالية كالمنظمات الدولية، والمنظمات المدنية الغير حكومية، فضلا عن الشركات المتعددة الجنسيات؛ في المقابل، تتسع مجالات تدخل الجهات، والجماعات الترابية بشكل عام، لتجديد أدوار وإمكانيات الدولة، ومواجهة متطلبات المنافسة الدولية الحادة، على مستوى فعالية السياسات العمومية، خصوصا ما يرتبط منها بالمجال الاقتصادي.
لهذا نقول أن الجهوية المتقدمة، من شأنها أن تخدم القضية الأساسية وهي قضية الوحدة الترابية، وهي حاسمة، لمستقبل المنطقة. حيث أن المغرب أرسى جهوية أكثر تقدما في انتظار التفعيل الحقيقي لها، وأن الدستور خطى خطوة مهمة في نقل الاختصاصات والإمكانات المصاحبة لها من المركز إلى الجهة في إطار الدولة الموحدة.
حضرات السيدات والسادة ،
إننا نعتقد في فريقنا أن مشروع قانون المالية، هو مشروع نوعي فهو: مشروع متوازن واجتماعي، إلى جانب كونه مشروعا لتنزيل الإصلاحات الكبرى، وبخاصة الجهوية المتقدمة. وهذه مناسبة للتنويه بما جاء به مشروع قانون المالية 2016 في هذا الباب، بحيث تم إحداث صندوقي التأهيل الاجتماعي والتضامن بين الجهات، مع تحويل موارد مالية إضافية بصفة تدريجية من طرف الدولة.
وهنا لابد من التأكيد أن مشروع القانون المالي يأتي بعد أن بدأت الإصلاحات الحكومية الجريئة تأتي أكلها، كما أن القرارات الإستراتيجية التي تم اتخاذها في المجال المالي، قد أثرت إيجابا علي التوازنات الكبرى لبلادنا وعلى النشاط الاقتصادي والدورة الاقتصادية، وما المؤشرات الاقتصادية والمالية التي هي بين أيدينا، إلا خير دليل على ذلك. وهذا جاء نتيجة ثمرة تنسيق وانسجام وتعاون جماعي تضامني بين مختلف مكونات الحكومة منذ دخول التجمع الوطني للأحرار للتدبير الحكومي غداة التعديل، وهو ما أعطى للحكومة استقرارا، ومنهجا عقلانيا لعملها، بحيث كانت مساهمة الحزب داخل الحكومة فعالة وإيجابية لأقصى الحدود بشهادة الحلفاء والخصوم.
حضرات السيدات والسادة ،
بالرغم من الجهود المبذولة والإنجازات المحققة، فإنه لا زالت هناك عوائق وتحديات التي تحول دون دخول بلادنا نادي الدول الصاعدة، وتعرقل المسار التنموي الذي نتطلع إليه جميعا، وأخص بالذكر أهم قضية بعد الوحدة الترابية، أي قضية التربية والتكوين. وهي القضية التي تقض مضجعنا في التجمع الوطني للأحرار، ونعتبرها مفتاحا لكل مستويات التخلف، كما نعتبر التصدي لها أولوية يجب أن ترقى عن كل الخلافات السياسية والنقابية الضيقة.
لهذا يجب التركيز على تقديم حلول ناجعة، واقتراحات عملية بناءة كفيلة بتطوير المنظومة التربوية. فأي مشروع لإصلاح التعليم يجب أن يهدف إلى تغيير المدرسة المغربية، لتمنح، بشكل منصف، لكل مواطني الغد تعليما وتكوينا ذي جودة، يرتكز على القيم والمبادئ العليا للوطن.
فالتحدي القائم بالنسبة لهذا القطاع، هو الإصلاح الذي يروم على الخصوص معالجة الاختلالات التي تعاني منها منظومة التربية والتكوين، انطلاقا من منظور استراتيجي عقلاني، يهدف إلى تأهيل أجيال اليوم للاستعداد للمستقبل، والمساهمة الفاعلة في بناء الرأسمال البشري الذي تحتاج إليه البلاد، وكذا الانفتاح على المبادئ الكونية.
أيضا لا بد من اتخاذ تدابير عملية مستعجلة لتمكين الناشئة من التعلمات الأساسية واللغات الأجنبية، وتثمين التكوين المهني، وتعزيز الكفاءات، وتحسين العرض المدرسي، والتأطير التربوي، وتعزيز الحكامة، وتخليق المدرسة الوطنية، وتعزيز تنافسية المقاولة في مجال التكوين المهني.
ولا ننسى أهمية التكوين المستمر في تثمين الرأسمال البشري، لهذا ندعو إلى تقديم عرض واقعي، يستجيب لتطلعات فئات عريضة من المجتمع سواء في الوسط الحضري أو القروي، وجعل التكوين المهني يتلاءم وحاجيات سوق الشغل وخصوصيات الجهات في بلادنا، عن طريق التعاقد مع المهنيين ومع المجالس الجهوية.
أما بالنسبة للصحة فإننا نرتبها ضمن الأولويات الصعبة المعقدة، نظرا لارتباطها الوثيق بالحاجيات المجتمعية اليومية الغير قابلة للتأجيل، لتدبير خدمة أساسية تعد حقا من الحقوق الأساسية التي يضمنها الدستور.
فبدون شك يطرح موضوع الصحة بالمغرب العديد من الأسئلة المحورية والرهانات المعقدة، فبالرغم من الجهود المبذولة، والرفع السنوي المستمر خلال العشرية الأخيرة لميزانية الوزارة، مازال القطاع يتيه في ظل تشعب وتناسل مشاكل عديدة. فمن باب المسؤولية المشتركة، وجب الوقوف على تقييم واقعي حول أسباب عدم مواكبة المجهود الميزانياتي مع منظومة الصحة وآثارها على المواطن. لهذا وجب استهداف تحسين جودة العرض الصحي، الذي يعد طموحا مشروعا، وحقا أساسيا من حقوق الإنسان.
كما نطمح كنواب للأمة بتحسين المؤشرات المرتبطة بالخريطة الصحية، وتطوير البنيات الصحية وتأهيل الموارد البشرية وتحسين خدماتها، لتمكين المواطن في القرى والحواضر من حق الولوج إلى المرفق الصحي دون عقبات مسطرية ومالية، غالبا ما تضطره إلى تأجيل طلبه في العلاج، والتعايش مع العلل والأمراض.
إن الصحة إشكالية منظومة بأكملها في حاجة إلى وقفة تأمل ونقاش واسع، تغيب فيه الحسابات الضيقة والأبعاد السياسية وتحضر المصلحة الوطنية. فكل الأوراش التي تعيشها بلادنا بدءا من إصلاح القضاء والتعليم ومشروع الجهوية وتعزيز المسلسل الديمقراطي وتخليق الحياة العامة، لن تقوم لها قائمة في وسط اجتماعي مريض وبيئة مختلة.
أيضا في ما يخص مسألة التشغيل، فالتصدي لمعضلة البطالة يشكل هاجسا كبيرا لدى الجميع، مع العلم أن مسألة التشغيل مرتبطة أساسا بمستوى النمو، لذلك لابد من إنتاج آليات جديدة للتصدي لآفة البطالة.
إن إشكالية التشغيل ترتبط بالدرجة الأولى بفئة الشباب، إذ يتطلب الأمر التوفيق بين حاجيات سوق العمل وتوجهات الخريجين. واعتماد سياسات نشيطة في مجال التشغيل، التي تروم تكوين الشباب حتى يصبحوا مؤهلين للشغل.
حضرات السيدات والسادة ،
في خضم مناقشتنا لمشروع قانون المالية يطرح علينا تحدي كان ولازال قائما، ألا وهو واقع العالم القروي والبادية المغربية التي أصبحت تعيش أوضاعا مزرية.
مع الأسف رغم جهود الدولة لتنمية العالم القروي والمناطق الجبلية والنائية، تأكد في السنوات الأخيرة أن العالم القروي يعيش وضعية سوسيو-اقتصادية صعبة، بل كارثية أحيانا نتيجة الإختلالات البنيوية. لهذا يجب استحضار مسؤوليتنا كحكومة وكنواب للشعب من أجل تحسين ظروف عيش السكان القرويين بالمناطق الجبلية والنائية، والمحافظة على الموارد الطبيعية، وتبادل المعلومات، والتركيز على الإجراءات المتخذة من قبل الدولة لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية للمناطق القروية، خاصة الجبلية والنائية، مع مواكبتها والوقوف على مدى بلوغها الأهداف المسطرة.
وفي هذا الإطار نقول في فريق التجمع الوطني للأحرار أنه: حان الوقت للدولة أن تضاعف جهودها لتحسين البنية التحتية للمناطق القروية، من خلال تشجيع الاستثمار، وخلق فرص الشغل في البوادي والقرى، وبناء المزيد من المراكز الصحية والمدارس، وتعبيد الطرق، وتوفير الماء الصالح للشرب والكهرباء والنظافة والنقل المدرسي، وجميع الخدمات الأساسية اللازمة لضمان كرامة المواطن القروي.
لهذا ننادي في فريقنا بتكثيف الجهود لمكافحة الفقر والهشاشة وسد الخصاص المسجل في المناطق البعيدة والمعزولة، لتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية وتوفير فرص الشغل، خصوصا في المناطق البعيدة والمعزولة، وخاصة البنيات التحتية والخدمات الاجتماعية الأساسية.
لهذا سيشكل مشروع قانون المالية لسنة 2016 منطلقا لتفعيل المخطط المندمج من أجل تحسين أوضاع سكان هذه المناطق والتخفيف من معاناتهم، وذلك بتخصيص 50 مليار درهم، وهذا أيضا يحسب للحكومة وتستحق عليه التنويه.
كما أننا في فريق التجمع الوطني للأحرار ، وبعيدا عن كل حسابات سياسوية نحن في غنى عنها وفي هذه الظرفية بالذات. ونظرا للحساسية السياسية ، والحساسية العملياتية لصرف هذا الاعتماد ، وبالنظر أيضا للأشواط والمراحل المؤسساتية التي مر منها مشروع القانون هذا ، والتي لا داعي للدخول في تفاصيلها الآن، ففريقنا متشبث بأن يكون صرفه مطابقا لما جاء في المشروع الذي بين أيدينا، آملون أن تتقاسم باقي المكونات الأغلبية هذه القناعة، حفاظا على الانسجام والعمل المشترك، الذي ميز عمل هذه الحكومة، والذي كان دوما مفتاح القفزة النوعية التي عرفتها.
لهذا فبلادنا بحاجة إلى أن نركز على إبراز نجاحاتنا في مختلف الإجراءات التنموية وتقويتها، وعن إخفاقاتنا وسبل تجاوزها وتقويم ما يمكن تقويمه ، بدل الانزلاق في موضوع ،كما قلت، في البداية نحن في غنى عنه ، قد يشغلنا عن التحديات التنموية التي تواجهنا.
ولابد في إطار هذه المناقشة العامة، من الوقوف على القانون التنظيمي لقانون المالية الجديد، الذي يرسي أسس محاسبة عصرية قوامها نجاعة الأداء. ونحن نتفق كون هذا القانون الواعد يشكل ورشا مهيكلا، وهو بالنسبة إلينا إصلاح ينم عن نضج الدولة المغربية.
إننا مقتنعون أن هذا القانون التنظيمي، يجسد نموذج متقدم في مجال شفافية القوانين المالية والميزانية ومقروئيتها، ويحدد منهجية جديدة لكيفية إعداد قوانين المالية والمصادقة عليها ومراقبتها. حيث تهدف إلى ترسيخ التدبير السليم لهذا الإصلاح، الذي من شأنه بعث دينامية جديدة في طرق تدبير الشأن العام.
كما لا يفوتنا أن نشير أن هذا القانون يعكس التطور الذي عرفته التجارب العالمية في مجال تدبير المالية العمومية، مجسدا انخراط جميع الفاعلين في تفعيل مضامينه، ناهيك عن إرساء مبدأ المسؤولية من طرف جميع المتدخلين. وهو بذلك يشكل ثورة مؤسساتية هادئة في مجال تدبير المالية العمومية. كما أن هذا القانون التنظيمي يعكس نضج التجربة المغربية بخصوص تحديث التشريعات المنظمة لتدبير المالية العمومية، من أجل تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومواكبة دينامية الإصلاح التي تعرفها المملكة في كافة المجالات.
إن المحاور الأساسية للقانون التنظيمي، المتمثلة في تحسين نجاعة أداء التدبير العمومي، وتعزيز المبادئ والقواعد المالية وتقوية شفافية المالية العمومية، وتعزيز الرقابة البرلمانية عليها، تترجم مدى التقدم في مجال ضبط وتحديث المالية العمومية. بما يجسد إلزامية إعداد قانون المالية استنادا إلى البرمجة القائمة على ثلاث سنوات بتحيينها سنويا، وإخضاع منظومة المالية العمومية لمنهجية نجاعة الأداء، من خلال تحديد مسؤوليات المدبرين، ومنحهم مزيدا من الحرية في التصرف مقابل التزامهم بإنجاز الأهداف المحددة، وتقديم الحساب حول النتائج.
أيضا هذا القانون يعزز المبادئ والقواعد المالية، ويهدف إلى تقوية شفافية المالية العمومية.، ويؤسس للانتقال من مقاربة الوسائل إلى مقاربه تقوم على الأهداف والنتائج، من خلال هندسة ميزانياتية جديدة، وتجديد طرق التدبير العمومي، ونوعية العلاقات التدبيرية والرقابية.
فهذا القانون يؤسس لقواعد مالية جديدة من أجل تعزيز التوازن المالي، وتأطير عقلاني للدين العمومي، من خلال تنصيصه على ضرورة عدم تجاوز حصيلة الاقتراضات مجموع نفقات الاستثمار وسداد أصول الدين.
أما في ما يخص تقوية الرقابة البرلمانية للمالية العمومية، فهذا هو بيت القصيد، فالقانون الجديد رسخ أدوارا رقابية جديدة للبرلمان في ما يخص تتبع وتقييم السياسات العمومية، من خلال مسلسل عرف إشراك واسع للبرلمانيين والبرلمانيات في المشاورات، حول التوجهات الكبرى والإطار العام الذي يتم فيه إعداد قانون المالية، وتضمينه معطيات وتقارير مستفيضة حول المشروع القانون المالي ووضعية المالية العمومية.
ودعوني أبدي ملاحظة في هذا الإطار ، وهو أن البرلمان يعد شريكا استراتيجيا في مواكبة إصلاح المالية العمومية للدولة، عبر مساهمة السيدات والسادة البرلمانيين أغلبية ومعارضة، من خلال اقتراحاتهم الهادفة إلى تحديث منظومة المالية العامة للدولة.
حضرات السيدات والسادة ،
بالنظر للتوجهات التي تؤطر مشروع القانون المالي 2016، والتي تتمثل في ورش تفعيل الجهوية وتطوير الإصلاحات الهيكلية الكبرى، وترسيخ نمو اقتصادي مندمج يمكن من تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية ، ومنتج لفرص الشغل، من خلال رفع وتيرة التصنيع، ودعم المقاولة وتفعيل الاستراتيجيات القطاعية وتحفيز الاستثمار الخاص. فإننا نعاين سيرورة استعادة التوازنات الماكروالاقتصادية، من خلال تقليص عجز الميزانية من 7,2 سنة 2012 إلى 4,9 سنة 2014، على أن يتواصل هذا المنحى نهاية سنة 2015 ليبلغ 4,3%، في أفق تقليصه إلى 3,5 % سنة 2016. وتقليص عجز ميزان الأداءات من 9,5% سنة 2012 إلى أقل من 2,8% هذه السنة. وهذا في حد ذاته إنجاز كبير يحسب للحكومة.
كما نشيد بالمجهودات الرامية إلى تقليص الوتيرة السنوية لارتفاع معدل المديونية للخزينة إلى 1,9 نقطة من الناتج الداخلي الخام نهاية سنة 2014 ، مقابل ارتفاع سنوي بلغ 3,8 نقطة مابين 2009 و2013. حيث من المنتظر أن يستقر معدل المديونية خلال سنة 2015 ما دون 64% من الناتج الداخلي الخام. وهذا في نظرنا تقدم ملموس بالنظر للنقاش العمومي حول إشكالية المديونية.
أيضا يشكل مخطط تسريع التنمية الصناعية إطارا استراتيجيا للرفع من مساهمة القطاع الصناعي في الناتج الداخلي الخام من 14% إلى 23%، ومن إحداث أكثر من نصف مليون منصب شغل. وهذا سيمكن من تقليص معدل البطالة في بلادنا. فهذا المخطط في نظرنا من الإبداعات الجديدة للحكومة التي مكنت من استقطاب استثمارات كبرى مثل مشروع ” بوجو ستروين”. أضف إلى ذلك المجهودات المبذولة لتسريع باقي الاستراتيجيات القطاعية، والتدابير المتخذة لدعم الاستثمار والمقاولة.
كما تجدر الإشارة إلى التطور الذي عرفته صادرات قطاع السيارات، مسجلة رقم معاملات مهم عند التصدير يفوق 40 مليار درهم سنة 2014 وزيادة بأكثر من 13% حتى متم شهر غشت الماضي، موازاة مع ارتفاع واردات سلع التجهيز بأكثر من 8% لمواكبة تطور الاستثمارات وتحسن جاذبية بلادنا للاستثمارات الأجنبية المباشرة التي ارتفعت بما يناهز 23%.
يضاف إلى هذه المؤشرات الإيجابية النتائج المحققة على المستوى الماكرو- اقتصادي، حيث من المنتظر أن يصل النمو الاقتصادي نهاية هذه السنة إلى 5%، مستفيدا بالأساس من موسم فلاحي متميز.
أيضا لا ننسى التحسن في توقعات الطلب الموجه إلى بلادنا من 3,3% سنة 2014 إلى 4,4% هذه السنة، بسبب الانتعاش الاقتصادي الذي تعرفه منطقة الأورو، مما انعكس إيجابا على انخفاض معدل البطالة من 9,3% إلى 8,7%، وهو أدنى مستوى مسجل منذ سنة 2012. فضلا عن تقليص العجز التجاري ﺑ 20%، وارتفاع صافي احتياطات الصرف إلى مستوى ناهز 214 مليار درهم، أي ما يعادل تغطية 6 أشهر و13 يوما من الواردات بعد أن كانت لا تتعدى أربعة أشهر في متم سنة 2013.
حضرات السيدات والسادة ،
وبارتياح كبير نسجل أنه تم تخصيص نصف الميزانية العامة للقطاعات الاجتماعية، مع توفير إمكانيات مالية في إطار صندوق التماسك الاجتماعي فاقت 4 ملايير درهم نهاية سنة 2014، مما مكن من تمويل برنامج “رميد” لتعميم التغطية الصحية للمعوزين، وفي هذا الإطار لابد من تقييم هذا البرنامج على مستوى الاستفادة الفعلية للمواطنين والمواطنات من الخدمات الصحية، وحل كل الإشكاليات العملية المرتبطة به.
يضاف إلى ذلك، الانجازات التي حققتها برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي فاقت استثماراتها 29 مليار درهم خلال الفترة 2005 – 2014، وبلغ عدد المستفيدين منها 9,75 مليون شخص، خصوصا المنحدرين من العالم القروي.
ولا بد في خضم هذه المناقشة العامة من ذكر الإصلاحات المتعلقة بالمقاصة، من خلال رصد 15,5 مليار درهم لدعم غاز البوتان والمواد الغذائية الأساسية لدعم القدرة الشرائية للمواطنين، موازاة مع التحكم في التضخم في مستوى 1,7%.
أيضا إصلاح نظام التقاعد الذي أصبح ضرورة مستعجلة. كذلك الإصلاح الجبائي، فبالنظر للمعطيات التي يقدمها مشروع قانون المالية، فإن العائدات الضريبية للدولة تبقى دون الطموحات، فهي تسجل زيادات طفيفة لا ترقى إلى الاستجابة للمتطلبات المتزايدة للدولة والمجتمع، بحيث ستسجل الموارد العادية للميزانية 207 مليار درهم، مقارنة بنهاية السنة الحالية 2015 الذي سيسجل حوالي 201 مليار درهم، أي بزيادة 2.6%، في إطار التوقعات القائمة. لكن هذا لا يمنعنا من القول بضرورة البحث عن طرق جديدة لتوسيع الوعاء الضريبي ومحاربة التهرب والغش الضريبي.
كما يعتبر التوجه نحو دعم الطلب خطوة هامة في هذا المسار، من خلال تخصيص 189 مليار درهم للاستثمار العمومي، لهذا يجب إعطاء الأولوية لدعم العرض الإنتاجي للقطاعات ذات القيمة المضافة العالية، الموجهة للتصدير والمنتجة للثروة ولفرص الشغل.
وموازاة مع تعزيز الاستثمار، نطالب في فريق التجمع الوطني للأحرار، بالعمل على تطوير التدابير المتخذة لتحسين مناخ الأعمال، من خلال مراجعة ميثاق الاستثمار ، وتحديث القطاع المالي عبر تفعيل القانون البنكي والأبناك التشاركية، وتنويع الأدوات والأسواق المالية المتاحة للمستثمرين.
حضرات السيدات والسادة ،
من جهة أخرى، الإجراءات التي جاء بها مشروع قانون المالية 2016 لصالح المقاولة تتسم بالإيجابية، بحيث سيتم تخصيص 189 مليار درهم للاستثمار العمومي. وهي مناسبة لنطلب من الحكومة التعجيل بإتخاذ الإجراءات القانونية والتنظيمية والمسطرية لتقليص آجال الأداء.
أما بالنسبة لإشكالية الانتقال من الاقتصاد غير المنظم إلى الاقتصاد المنظم، فتشكل وجها آخر من القضايا الاقتصادية التي ينبغي إيجاد حلول جذرية لها، بالرغم من المجهودات المبذولة، وأخص بالذكر ” نظام المقاول الذاتي”، فالاقتصاد غير المهيكل يفتح الباب أمام المنافسة غير المشروعة، ويعيق التنافسية الاقتصادية في بلادنا. إضافة إلى أن الحكومة لم تضع تحفيزات ضريبية ومالية لإدخال جزء من النشاط الاقتصادي غير المهيكل إلى القطاع المهيكل.
إن إشكالية القطاع غير المهيكل تفرض البحث عن مقاربة أخرى جديدة تستوعب التحولات التي يعرفها الشأن الاقتصادي الوطني، من أجل إدماجه في “الاقتصاد الحقيقي”، حيث يجب بلورة تدابير عملية كفيلة باستيعاب متطلبات الفاعلين فيه، لذلك فالحكومة مطالبة بإرساء مقاربة مندمجة جديدة لإدماج هذا القطاع، تمكن من توفير دخل معقول للفئات الأكثر هشاشة، وأيضا ضمان عدم منافسة المشغلين في القطاع المهيكل من طرف فاعلين، لا يتحملون أعباء المساهمات الاجتماعية والضريبية. لذلك يجب تحسيس المستهلكين ببعض الآثار السلبية للمنتوجات والمواد الرائجة على مستوى القطاع غير المهيكل، من خلال المراقبة والاختيار القائم على أهمية العلاقة بين الجودة والأسعار.
حضرات السيدات والسادة ،
إن إنجاز المشاريع المطلوبة وتأمين التوازنات المفروضة يستوجب وجود فلسفة اقتصادية، ترتكز على رؤية متكاملة العناصر والاستراتيجيات والأهداف، ومتسلسلة الأوليات لتشمل البُعد الترابي والمجالي بين القرية والمدينة.
وهذا لن يكون إلا من خلال تقوية الرأسمال المؤسساتي بتعاقدات توفق المصالح المركزية واللامركزية، وتعمل على أن تلتقي السياسات العمومية والاستراتيجيات الاقتصادية، لاسيما بالاعتماد على نموذج اقتصادي ينبني على التصنيع كسبيل ومنهج للثروة، فضلاً عن ربط النمو الاقتصادي بالتنمية البشرية. إضافة إلى تكثيف الروابط التجارية والعلاقات الاقتصادية بالمنطقة المتوسطية والقارة الإفريقية كأرضية خصبة للتصدير والاستثمار.
إننا في التجمع الوطني للأحرار نسجل اعتزازنا الكامل بنضج نموذجنا السياسي والتنموي المغربي، والذي يعتبر نموذجا متميزا في المنطقة من خلال اعتماد نهج الإصلاحات، في كل الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لهذا نرى في فريقنا أن مشروع القانون المالي 2016 مشروع طموح يترجم رؤية اقتصادية سديدة، ويستجيب لمتطلبات المواطنات والمواطنين.