منذ إصدار دستور 2011 اتسع نطاق الأمل لدى أوساط مختلفة في قطع البرلمان المغربي مع الممارسات القديمة بما يكفل مصداقيته و يساهم في تلميع صورة البرلماني لدى الرأي العام ، تزايد هذا الأمل نتيجة الحراك المؤدي إلى الإصلاح الدستوري و ما ترتب عنه من انتخابات سابقة لأوانها، فضلا عما تضمنه الدستور الجديد من آليات لتعزيز صلاحيات البرلمان سواء في المجال التشريعي أو في مجال رقابة العمل الحكومي بالإضافة إلى معالجة ظاهرة الترحال السياسي .
لكن بعد أكثر من سنة على تجديد مجلس النواب تزايدت حدة الانتقادات لهذه المؤسسة بصفة عامة و للبرلمانيين بصفة خاصة. و لا يقتصر الأمر على انتقاد الأداء البرلماني بل يتعداه أحيانا الى توجيه أوصاف غير لائقة سواء للمؤسسة أو للبرلمانيين على السواء . فمن وصف المؤسسة بالمسرح أو الحمام أو المؤسسة الفارغة أو غيرها إلى وصف البرلمانيين باللصوص ، الخرفان ، العفاريت و التماسيح و غيرها من الأوصاف التي تعمق أزمة صورة البرلماني ومن خلاله تشويه صورة البرلمان لدى الرأي العام .
هذه الوضعية تبدو غير سليمة و تحتاج إلى تحليل موضوعي للمساهمة في الكشف عن مبررات الانتقادات التي أصبحت تلازم البرلمان و تطارد البرلمانيين.
صحيح أن سلوك بعض البرلمانيين لا يستقيم مع متطلبات مرحلة الدستور الجديد لعدم استيعاب هؤلاء البرلمانيين لأهمية التحولات التي تعرفها الحياة الدستورية و السياسية ، فهذا السلوك لا يختلف في جوهره عما كان شائعا في السابق لاستمرار نفس الأفعال أو الأعمال في تجاهل شبه تام لمستلزمات لحظة التغيير رغم أنها مطلب شعبي واسع ، و من تم فالسلوك البرلماني تسلط عليه الأضواء أكثر باعتبار أن البعض يرى في هذا السلوك مؤشرا حقيقيا لقياس درجة هذا التغيير ، و من تم فأعمال البرلماني و أفعاله و أحيانا حتى حياته الشخصية لا تستأثر فقط بمتابعة و ملاحظة ناخبيه و لكن تستأثر كذلك بمتابعة الرأي العام ، فضلا عن المتابعة المستمرة للجميع لأداء البرلمان برمته.
وإذا كان البرلمان في المحطات السابقة طالما كان موضوعا للانتقاد بسبب عدة مظاهر سلبية من قبيل الترحال السياسي و الغياب المفرط أو بسبب ضعف الأداء و غياب شروط الحوار البناء و المجدي بكيفية وصفها المغفور له الحسن الثاني ” بالسرك ” ، فان البرلمان الحالي لم يتمكن بعد من تجاوز منطقة الحرج والانتقال الى التجاوب مع انتظارات المواطنين ، بل في كثير من الحالات تؤدي تصرفات و سلوكات بعض البرلمانيين الى تشويه صورة البرلمان لدى الرأي العام .
فبعض البرلمانيين متورطون منذ السابق في أعمال يجرمها القانون مثل إصدار شيكات بدون رصيد أو خيانة الأمانة أو الفساد أو الارتشاء و غيره ، و بفعل إلغاء الحصانة يجد هؤلاء أنفسهم اليوم أمام متابعات قضائية مباشرة ، فمنهم من يتابع في حالة اعتقال و تصدر ضده أحكام سالبة للحرية ، و منهم من تتم متابعته في حالة سراح مع الاستمرار في مزاولة المهام البرلمانية ، و كل ذلك يعطي انطباعا سلبيا عن مصداقية البرلماني الذي من المفروض أن يكون نموذجا للالتزام و احترام القانون .
و منهم من اختار أسلوبا فريدا و غير مسبوق للدفاع عن نفسه كما حدث في واقعة إزالة أحدهم لملابسه في جلسة دستورية منقولة عبر وسائل الإعلام، مما اعتبره كثيرون سلوكا خادشا لحياء الرأي العام، و سلوكا ماسا بالأخلاق و بحرمة المؤسسة.
أما البعض الآخر فاختار الاستمرار في الغياب عن المؤسسة و لا يحضر إلا بكيفية متقطعة مما يعتبره المتتبعون تقصيرا من البرلمانيين المعنيين في تحمل مسؤولياتهم و عدم الوفاء بالتزاماتهم اتجاه ناخبيهم.
فمما لا شك فيه أن مختلف هذه المظاهر تسيء ليس فقط للبرلمان كمؤسسة دستورية و لكن للبرلمانيين كمنتخبين . وبالفعل ، فان هذه المظاهر أدت خلال المدة الأخيرة إلى تزايد حملة الانتقادات الموجهة للبرلمان ، كما اتسعت دائرة الامتعاض من سلوك بعض البرلمانيين . وتزداد الانتقادات شراسة بفعل ما يتراكم لدى الرأي العام من سلبيات عن البرلماني ، الذي تختزل وظيفته في الغالب في كونه مقدم خدمات لناخبيه ، و أنه يستغل مركزه البرلماني لتحقيق مصالحه الخاصة.
لكن ، إذا كانت تلك الانتقادات تستند على وقائع تابثة فمن شأن تعميمها أن يكون مبالغا فيه ، لكون المظاهر السلبية السالفة الذكر تقتصر على برلمانيين عددهم محدود للغاية ، في حين أن أغلبية البرلمانيين يلتزمون بالانضباط و باحترام قواعد العمل البرلماني المتعارف عليها . فعلى مستوى مجلس النواب أدت انتخابات 25 نونبر 2011 إلى إفراز نخب برلمانية جديدة مع تطعيم هذا المجلس بفضل الكوطا بوجوه نسائية وشبابية بكيفية غير مسبوقة ، مما كان له أثر ايجابي على مستوى الحضور و المساهمة في العمل البرلماني سواء في اللجان أو في الجلسات العامة سواء على مستوى التشريع أو على مستوى مراقبة العمل الحكومي.
غير أنه بالرغم من أهمية هذا المجهود ، فانه يبقى باهتا و لا يصمد أمام حملة الانتقادات الموجهة للبرلمان ، ويرجع ذلك الى أربع حقائق :
الحقيقة الأولى تتعلق بتجديد مجلس النواب دون تجديد آليات الاشتغال ، و يرجع ذلك أساسا إلى عدم تطوير مساطر العمل البرلماني وفق متطلبات تفعيل المستجدات البرلمانية ، حيث استمر العمل بنفس النظام الداخلي لهذا المجلس رغم مراجعته الشكلية بهدف الملائمة مع الدستور الجديد، و قد ترتب عن هذه الوضعية استمرار نفس أسلوب العمل و نفس الطقوس و هو ما أدى إلى محافظة المجلس على إيقاعه مع يرافق ذلك من روتين و غياب الجاذبية ، و تقدم الجلسات الأسبوعية المخصصة للأسئلة الشفوية برتابتها و طقوسها صورة سلبية عن مجلس النواب ، و نفس الشيء يتكرر في مجلس المستشارين. لذلك تتطلب المرحلة الجديدة نقلة نوعية للارتقاء بالعمل البرلماني بما يكفل تطوير آليات الاشتغال و تجديد مساطر و طرق العمل ، و هو رهان لا يمكن كسبه إلا بتعبئة الجهود لإصلاح النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان بكيفية تضمن التكامل و النجاعة البرلمانية.
الحقيقة الثانية تتعلق بعدم تجديد مجلس المستشارين و استمرار هذا المجلس في ممارسة وظائفه طبقا للدستور الجديد رغم أن تشكلته حددها دستور قديم أصبح في حكم العدم ، مما يثير إشكالا معقدا لا يمكن معالجته إلا بالإسراع بتجديد هذا المجلس وفق المستجدات الدستورية ذات الصلة .
الحقيقة الثالثة تتجلى في ضعف الإمكانيات المخصصة للبرلمان و ما يترتب عنه من تواضع الأداء و ضعف النجاعة ، فضعف هذه الإمكانيات لا يساعد البرلمانيين على المواظبة والأداء الجيد خاصة أمام تواضع ظروف العمل ( غياب مكاتب خاصة للبرلمانيين و غير ذلك من وسائل العمل) و أمام غياب وسائل دعم قدرات البرلمانيين (غياب مساعدين خاصين كما هو الشأن في برلمانات فرنسا و اسبانيا و الولايات المتحدة الأمريكية و غيرها) ، يبقى الأداء البرلماني متواضعا لاقتصاره على القدرات الذاتية للبرلمانيين ، و بما أن هؤلاء يكتسبون هذه الصفة على اثر الانتخابات ، فانه يصعب إفراز نخب كلها خبراء و كفاءات و أطر ، لذلك يتم اللجوء في مختلف التجارب الديمقراطية إلى معالجة الخصاص عبر دعم قدرات البرلمانيين بوسائل مختلفة بما في ذلك الاستعانة بخدمات الخبراء و المساعدين.
الحقيقة الرابعة تتعلق بانحصار تسليط الضوء إما على جوانب القصور في العمل البرلماني أو على الممارسات المشينة والسلوك غير اللائق لبعض البرلمانيين في تجاهل تام للجوانب الايجابية و هي متعددة و في حاجة إلى تثمينها و تسويقها سواء تعلق الأمر بالأداء البرلماني أو بانضباط أغلب البرلمانيين و وفائهم بالتزاماتهم ، ومما لا شك فيه تبقى مقاربة الجزء الفارغ من الكأس غير موضوعية و لا تساهم في تقويم حقيقي لمعالجة الاختلالات و دعم المكتسبات.
ويتضح من مختلف هذه الحقائق أن سوء صورة البرلماني مسؤولية مشتركة بين عدة فاعلين ، على رأسهم البرلمانيين أنفسهم فرادى و جماعات فيما يتعلق بالانضباط و الوفاء بتحمل المسؤولية ، و البرلمان بمجلسيه كمؤسسة دستورية فيما يتعلق بالرفع من وثيرة الأداء و ممارسة الوظائف بشكل مغاير للتجارب السابقة ، و الحكومة فيما يتعلق بتوفير وسائل العمل البرلماني ، و الإعلام فيما يتعلق بالتعامل الموضوعي و الاحترافي مع قضايا البرلمان و البرلمانيين و أخيرا الرأي العام فيما يتعلق بتقييم العمل البرلماني وفق منظور جديد تذوب معه رواسب التراكمات السلبية الراكدة في الخيال الشعبي عن صورة البرلمان و البرلمانيين.
ولئن كان تحمل كل طرف لهذه المسؤولية المشتركة من شأنه أن يساهم تدريجيا في تصحيح صورة البرلمان برمته ، فانه لا بد من التأكيد أنه مهما كانت حدة الانتقادات للبرلمان ، فانه يستحيل الاستغناء عنه لكونه رمزا لتجسيد الممارسة الديمقراطية في مختلف الدول التي تؤمن بذلك. و هنا لا بد من ملاحظة أن صفة برلماني لا تكتسب إلا بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع مع ما ينطوي عليه ذلك من تعبير عن إرادة المواطنين بكيفية ديمقراطية في اختيار من يمثلهم في البرلمان ، و تبعا لذلك لا يمكن لأي ديمقراطي أن يشكك في نتائج العملية الديمقراطية أو يطعن في اختيارات المواطنين خاصة عندما يتم الإجماع على سلامة و نزاهة العمليات الانتخابية و تحترم نتائجها من لدن كل الفاعلين بما تفرزه من أغلبية و معارضة.
وهكذا ، فان أي انتقاد لا ينبغي أن يحيد عن الاحترام اللازم للمؤسسات ، و باستثناء ذلك يبقى انتقاد البرلمان مطلوبا وضروريا لأي إصلاح ديمقراطي شرط أن يكون بناء وموضوعيا حتى يساهم في الكشف عن مظاهر القصور و تثمين المظاهر الايجابية و ذلك من أجل المساهمة في الإصلاح و التغيير بنضج واتزان و تبصر.
محمد حنين، برلماني عن حزب التجمع الوطني للأحرار