بقلم: النائب البرلماني عبد الرحيم شطبي
في كلمته أمام البرلمان في إطار المساءلة الشهرية ، يوم الاثنين 19 ماي 2025، قدّم رئيس الحكومة المغربية عرضًا مفصلًا حول إصلاح التعليم، اختار له عنوانًا دالًا: “من مدرسة الريادة إلى جامعة التميز”، وهو عنوان يكشف الطموح الذي تحمله الحكومة لإعادة بناء المنظومة التعليمية بشكل شمولي، من التعليم الابتدائي إلى التعليم العالي. تميز الخطاب بنبرة صريحة لا تُخفي حجم الأزمة، وبنزعة عملية تُعوّل على المقاربات المجربة والمعطيات الرقمية، مما منح الكلمة طابعًا استثنائيًا من حيث المضمون والواقعية.
الانطلاقة كانت بتشخيص دقيق لحالة المدرسة المغربية، عرضٌ لم يتهرّب من الحقائق، ولم يُغلفها بشعارات. بل استند إلى تقارير وطنية ودولية تؤكد أن المغرب لا يعيش فقط أزمة تعليم، بل أزمة تعلم بالأساس. نتائج تقارير PISA 2018 وPNEA 2019 كشفت بوضوح أن نسبة مهمة من التلاميذ لا يتحكمون في الكفايات الأساسية، حيث أن 70% من تلاميذ التعليم العمومي لا يبلغون الحد الأدنى من المهارات عند نهاية المرحلة الابتدائية. أما الهدر المدرسي، فلا يزال يحصد سنويًا أكثر من 300.000 تلميذ، معظمهم من العالم القروي، في ما يبدو أنه نزيف مستمر يعكس اختلالات متعددة الأبعاد، منها الاجتماعي والتربوي والاقتصادي. كما أن المغرب يقبع في ذيل التصنيفات الدولية، باحتلاله المرتبة 75 من أصل 79 في تقويم الكفايات الأساسية، وهو ما يضع تحدي الجودة على رأس أولويات المرحلة.
بعد هذا التشخيص القاسي، انتقل رئيس الحكومة إلى استعراض الجهود المالية والاستثمارية المبذولة للنهوض بالقطاع، مؤكدًا أن ميزانية التعليم ارتفعت من 68 مليار درهم سنة 2019 إلى 85 مليار درهم سنة 2025، بنسبة نمو بلغت 25%، وهي زيادة تعكس – بحسب الخطاب – تحولًا في وعي الدولة بمركزية التعليم في المشروع التنموي. جهد مالي مدروس، صيغ بمنهجية دقيقة، واستُثمر في أولويات محددة بوضوح ، على رأسها توسيع العرض المدرسي وتعزيز البنيات التحتية، حيث تم إحداث 189 مؤسسة تعليمية جديدة خلال سنة 2025، منها 129 مدرسة ابتدائية، إضافة إلى بناء 335 مدرسة جماعاتية استهدفت 90.000 تلميذ وتلميذة. كما تم تجهيز أكثر من 30.000 قسم بوسائل رقمية حديثة ومعدات تربوية وتكنولوجية، في خطوة نحو تجديد الفضاء البيداغوجي وتحديث أساليب التعليم.
لكن التحول الحقيقي – كما أبرز الخطاب – جاء مع إطلاق برنامج “مدارس الريادة” سنة 2022، الذي اعتمد مقاربة TARL، أو “التعليم وفق المستوى المناسب”، وهي مقاربة أثبتت فعاليتها في السياقات التربوية المشابهة. هذا البرنامج أسفر عن نتائج لافتة، تمثلت في تحسن مستوى التلاميذ في اللغة العربية بثلاثة أضعاف، وتضاعف كفاياتهم في اللغة الفرنسية، فيما سجلت الرياضيات قفزة نوعية بتحسن بلغ أربعة أضعاف. استفاد من هذا البرنامج أكثر من 300.000 تلميذ – أي حوالي 30% من تلاميذ الابتدائي – عبر 2.626 مؤسسة، بفضل انخراط 44.000 أستاذ وأزيد من 2.600 مدير و560 مفتش. كلفة تعميم هذا النموذج بقيت في حدود معقولة، إذ تبلغ 25.000 درهم لكل قسم ابتدائي و30.000 درهم لكل قسم إعدادي، مع كلفة تسيير سنوية لا تتعدى 8.000 درهم في الابتدائي و12.500 درهم في الإعدادي.
وعلى منوال “مدارس الريادة”، انطلقت سنة 2025 تجربة “إعداديات الريادة”، حيث تم اختيار 230 ثانوية إعدادية تستهدف 200.000 تلميذ، وتضم أكثر من 6.000 أستاذ و600 مفتش. تراهن هذه المبادرة على خفض الهدر المدرسي وتعزيز الدعم الشخصي للتلاميذ، مع إرساء خلايا مرافقة نفسية واجتماعية، واعتماد نفس المقاربة البيداغوجية القائمة على التدرج في التعلم. الدولة خصصت لكل مؤسسة إعدادية ميزانية سنوية بلغت 200.000 درهم، ما يعكس وعيًا بأن إصلاح التعليم لا يقتصر على البرامج والمقررات، بل يتطلب أيضًا بيئة تربوية دامجة وآمنة.
في التعليم العالي، برز في خطاب رئيس الحكومة توجه واضح نحو التميز والابتكار وربط الجامعة بسوق الشغل. بلغ عدد الطلبة سنة 2025 حوالي 1.300.000، بينهم 344.000 طالب جديد، 91% منهم مسجلون في الجامعات العمومية. تم إحداث 1.000 مسلك جديد ضمن شبكة تضم 4.000 مسلك في المجموع، كما أُطلقت مبادرات نوعية من قبيل مراكز التمكين “تميُّز”، التي بلغ عددها 82 مركزًا يستفيد منها 15.000 طالب، إضافة إلى مشاريع لنقل التكنولوجيا بقيمة 60 مليون درهم، وبرنامج CODE212 لتأهيل الطلبة في المهارات الرقمية والمهنية. الحكومة أعلنت أهدافًا طموحة إلى أفق 2030، من بينها تكوين 100.000 خريج في المهن التقنية والمتوسطة، و50.000 أستاذ جديد في التعليم الابتدائي والثانوي بحلول 2025، و22.500 خريج في التخصصات الرقمية بحلول 2027. كما تم إطلاق إصلاح شامل للدكتوراه يستهدف 11.700 طالب موزعين على 245 مسلكًا.
في الجانب الاجتماعي، شدد رئيس الحكومة على أن الإصلاح لا يقتصر على المحتوى التربوي، بل يشمل العدالة الاجتماعية والإنصاف المجالي، إذ بلغ عدد المستفيدين من برنامج الدعم المدرسي أكثر من 3 ملايين تلميذ، بينما استفاد من النقل المدرسي 640.000 تلميذ، مع دعم مباشر في اقتناء الكتب بنسبة 25%. كما أشار إلى تسوية الوضعية الإدارية والمالية لهيئة التدريس، حيث تم ترسيم 115.000 أستاذ من فوج “المتعاقدين”، وصرفت زيادات في الأجور بلغت 1.500 درهم شهريًا لفائدة 330.000 موظف بكلفة إجمالية قدرها 5 مليارات درهم، إضافة إلى مليار درهم في شكل تعويضات تكميلية، وأكثر من 2.4 مليار درهم كميزانية للترقيات وتسوية الملفات العالقة.
في المحصلة، لم يكن الخطاب مجرد استعراض حكومي، بل أقرب إلى وثيقة سياسية ذات بُعد استراتيجي، تجمع بين تشخيص دقيق، وإرادة إصلاحية معلنة، ومقاربة تشاركية واعية. خطاب يرسم معالم تحول في تعاطي الدولة مع التعليم، لا باعتباره قطاعًا خدماتيًا، بل باعتباره ورشًا وطنيًا ذا أولوية قصوى. غير أن الرهان الحقيقي لن يُحسم في قاعة البرلمان، بل في واقع التنفيذ، حيث يُختبر صدق الالتزام بمتابعة المشاريع، واستدامة التمويل، وتكريس آليات التقييم والمساءلة. فإصلاح التعليم لا يُنجَز بالنوايا وحدها، بل بتحويلها إلى أفعال، وبجعل الأثر الميداني هو المعيار الأصدق لكل إصلاح.