شهد المشهد الحزبي المغربي خلال العقد الأخير تحولات عميقة، أبرزها بروز حزب التجمع الوطني للأحرار كقوة سياسية مركزية، ليس فقط من حيث تموقعه الانتخابي، ولكن من خلال قدرته على التأثير في السياسات العمومية وتولي مسؤولية القيادة الحكومية. هذا الصعود لم يكن وليد الصدفة، بل ثمرة استراتيجية متعددة الأبعاد، استندت إلى إعادة الهيكلة، تجديد الخطاب، والانفتاح على المجتمع.
مقاربة التنظيم والانفتاح: حجر الأساس
اعتمد التجمع الوطني للأحرار، منذ أن تولى عزيز أخنوش قيادته، مقاربة تنظيمية جديدة تعتبر من أبرز العوامل التي مهدت لصعوده السياسي الوازن. فالحزب لم يكتف بإصلاحات شكلية أو تحركات موسمية، بل أطلق ورشًا بنيويًا لإعادة تأسيس الذات الحزبية وفق تصور حديث يقوم على الدمج بين التأطير العمودي والتفاعل الأفقي. أحد أهم أركان هذه المقاربة تمثل في إحداث تنظيمات موازية موجهة لشرائح اجتماعية ومهنية كانت غالبًا مهمشة داخل الأحزاب التقليدية، مثل الشباب، النساء، الطلبة، المهنيين، الأطباء، المحامين، التجار وغيرهم.
هذا التوجه أتاح للحزب بناء قاعدة بشرية متجددة لا تقوم فقط على الولاء الحزبي التقليدي، بل على أساس الانتماء للمجتمع المدني المهني والاجتماعي، مما منح الحزب قدرة على التفاعل مع قضايا دقيقة، ومعرفة أولويات الفئات المختلفة.
في موازاة ذلك، أطلق الحزب مبادرة غير مسبوقة في المشهد الحزبي المغربي من حيث الشكل والمضمون، تمثلت في حملة “100 يوم، 100 مدينة”، والتي تحوّلت إلى منصة تواصلية حقيقية بين القيادة الحزبية والمواطنين في مختلف ربوع المملكة. هذه الجولات لم تكن مجرد زيارات بروتوكولية، بل لحظات إنصات فعلي ونقاش مفتوح مكنت من جمع آراء وآمال المواطنين، لترجمتها لاحقًا في البرنامج الانتخابي للحزب.
تتميز هذه المقاربة أيضًا باعتماد وسائل التكنولوجيا الحديثة، حيث تم إطلاق منصات رقمية تفاعلية ساهمت في تقريب العمل السياسي من الشباب، وتعزيز المشاركة الرقمية في صناعة القرار الحزبي. وقد شكل هذا التوجه قطيعة مع الأساليب النخبوية التقليدية، وأدخل الحزب في مرحلة جديدة من الانفتاح المؤسساتي والتأطير الذكي.
من خلال هذه المبادرات، نجح التجمع الوطني للأحرار في إعادة ترميم العلاقة المتآكلة بين المواطن والعمل الحزبي، وأعاد الاعتبار لفكرة الحزب المنفتح، الديناميكي، والقادر على التكيف مع التحولات المجتمعية، وهو ما مهّد الطريق أمامه لاحتلال موقع مركزي في المشهد السياسي الوطني لاحقًا.
التعبئة الانتخابية: من العمل القاعدي إلى النصر السياسي
مثّلت انتخابات 8 شتنبر 2021 لحظة تتويج لمشروع سياسي وتنظيمي متكامل اعتمده التجمع الوطني للأحرار، حيث حقق الحزب قفزة نوعية في حجمه التمثيلي والشعبي، من خلال فوزه بـ102 مقعد في مجلس النواب، وأكثر من 2.3 مليون صوت، بالإضافة إلى تصدره للانتخابات الجهوية والجماعية. غير أن قراءة هذا الانتصار تتجاوز الأرقام المجردة، لتكشف عن تحول استراتيجي عميق في علاقة الحزب بالعملية الانتخابية، يقوم على الاستثمار في العمل القاعدي طويل المدى، وليس فقط في الحملات الظرفية.
لقد أظهرت النتائج أن الحزب نجح في بناء شبكة انتخابية فعالة على امتداد التراب الوطني، بفضل التموقع القوي في المجالس المحلية والجهوية، مما أتاح له امتلاك أدوات تأثير فعالة على السياسات الترابية وعلى ديناميات التنمية المحلية. هذا الامتداد المؤسساتي لم يأت من فراغ، بل هو ثمرة منهجية واضحة تعتمد على التواصل القريب، الاستماع للمواطن، والتفاعل مع احتياجاته المباشرة، وهو ما عزز صورة الحزب كبديل موثوق وقادر على الاستجابة الفعلية لتطلعات الشارع.
كما أن طبيعة الخطاب السياسي الذي اعتمده الحزب خلال الحملة الانتخابية عكست توازنًا بين الواقعية والطموح. فبعيدًا عن الشعبوية، تم التركيز على وعود قابلة للتحقق، ومبنية على تشخيص ميداني شارك فيه المواطنون عبر مراحل الإنصات الممنهج. هذا الأمر منح الحزب مصداقية انتخابية افتقدتها تشكيلات أخرى، خاصة في ظل حالة من الشك العام تجاه النخب السياسية.
من جهة أخرى، فإن الحملة الانتخابية للتجمع الوطني للأحرار لم تكن مجرد ترويج لبرنامج، بل كانت استعراضًا لقدرات تنظيمية محترفة، انخرط فيها الآلاف من مناضلي الحزب على المستويين المحلي والوطني، مع حضور رقمي قوي على مواقع التواصل الاجتماعي، وتنظيم محكم للأنشطة الميدانية. وقد شكل هذا التكامل بين العمل الرقمي والميداني علامة فارقة في الحملة، عززت من اختراق الحزب لشرائح جديدة، خصوصًا الشباب والطبقة الوسطى.
بهذا المعنى، لا يمكن اعتبار نتائج 8 شتنبر انتصارًا انتخابيًا فقط، بل هي في جوهرها ترجمة ميدانية لتحول عميق في الثقافة التنظيمية والسياسية للحزب، الذي نجح في الانتقال من موقع “المشارك الثانوي” إلى موقع “القائد السياسي”، من خلال تعبئة ذكية، مدروسة، ومتواصلة.
قيادة حكومية في زمن الأزمات
تولّي حزب التجمع الوطني للأحرار قيادة الحكومة المغربية سنة 2021 لم يكن في ظرفية سياسية أو اقتصادية سهلة، بل في سياق مطبوع بتحديات غير مسبوقة فرضتها الأزمات العالمية المتتالية: جائحة كوفيد-19 وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، ثم الحرب في أوكرانيا التي أربكت سلاسل الإمداد ورفعت أسعار الطاقة والمواد الأساسية، فضلًا عن التحولات المناخية والجفاف الذي أثّر على الفلاحة والأمن المائي. أمام هذا الوضع، وجدت الحكومة نفسها مطالبة ليس فقط بالتدبير اليومي للأزمة، بل أيضًا بإطلاق إصلاحات مهيكلة للحفاظ على التوازنات الكبرى والاستجابة للانتظارات المجتمعية.
ورغم هذا الإكراه المتعدد الأبعاد، استطاعت الحكومة أن تطلق باقة من المشاريع الاستراتيجية الطموحة، أبرزها تعميم التغطية الصحية الإجبارية، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ المغرب، تهدف إلى توسيع الحماية الاجتماعية لملايين المغاربة. هذا الورش يعكس رؤية اجتماعية واضحة تقوم على العدالة الصحية وتعزيز مناعة المجتمع في وجه الأزمات.
وفي ميدان التشغيل، أطلقت الحكومة برنامج “أوراش”، الذي مكّن الآلاف من المواطنين، خصوصًا الشباب والعاملين في القطاع غير المهيكل، من الحصول على فرص شغل مؤقتة ومواكبة مهنية، مما شكل خطوة استباقية للحد من تداعيات البطالة وتسريع الإدماج الاقتصادي.
قطاعا التعليم والصحة لم يكونا بمعزل عن الدينامية الإصلاحية، حيث شرعت الحكومة في إصلاح هيكلي لكلا القطاعين وفق منهجية شمولية، تم فيها تحسين دخل العاملين، وتحديث المناهج، وتجهيز المؤسسات، بما يعكس وعيًا بأن التنمية لا يمكن أن تتحقق دون رأسمال بشري مؤهل ومحصّن.
أما في المجال الفلاحي، فبرز برنامج “الجيل الأخضر” كأداة استراتيجية لتجديد النموذج الإنتاجي في العالم القروي، والانتقال من الفلاحة المعاشية إلى نموذج منتج ومستدام، يركز على تثمين الموارد، وتحسين دخل الفلاحين، واستعمال التكنولوجيا الحديثة في الزراعة.
كل هذه المبادرات تعكس مقاربة حكومية تجمع بين الاستعجال في التدخل الاجتماعي، والرؤية بعيدة المدى للإصلاح الهيكلي، في وقت كان من السهل فيه الارتهان إلى تدبير الأزمات فقط. وهنا تتجلى قوة القيادة السياسية لحزب التجمع الوطني للأحرار، الذي لم يكتف بإدارة الأزمة، بل حاول تحويلها إلى فرصة لإرساء قواعد إصلاح عميق.
إلا أن هذا المسار ليس بلا تحديات، فالرهان الأكبر يتمثل في ضمان نجاعة السياسات العمومية واستمراريتها، وتعزيز الثقة بين المواطن والمؤسسات، في أفق تحقيق انتقال تنموي شامل.
الشباب ومغاربة العالم: رهان التجديد
في زمن أصبحت فيه الفجوة بين المواطن والمؤسسات تمثل أحد أبرز التحديات الديمقراطية، راهن حزب التجمع الوطني للأحرار على تجديد النخب السياسية والانفتاح على طاقات جديدة كمدخل أساسي لتحديث الفعل الحزبي وضمان ديمومته. هذا الرهان لم يظل شعارًا نظريًا، بل تُرجم إلى اختيارات عملية تمثلت في تمكين الشباب ومغاربة العالم من مواقع متقدمة داخل هياكل القرار، سواء على المستوى الحكومي أو التشريعي أو المجالس المنتخبة محليًا وجهويًا.
فمن خلال منح حقائب وزارية استراتيجية لوجوه شابة أو الدفع بشباب الحزب إلى البرلمان، أرسل التجمع الوطني للأحرار إشارة قوية على وعيه بضرورة خلق قطيعة مع النخب الكلاسيكية التي هيمنت لعقود على المشهد، دون أن تكون قادرة على ملامسة تطلعات الأجيال الجديدة. هذه الدينامية خلقت توازنًا مهمًا بين الخبرة السياسية والتجديد الدموي للفعل العمومي.
كما لم يغفل الحزب دور الجالية المغربية المقيمة بالخارج، التي لطالما ظلت في الهامش رغم وزنها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فقد عمل على تفعيل تنظيمات حزبية خارجية في أوروبا، أمريكا الشمالية، ودول الخليج، وفتح قنوات مؤسساتية مع الكفاءات المغربية بالخارج، ما سمح بتوسيع خريطة التأثير السياسي للحزب خارج الحدود، وربط مغاربة العالم برؤية وطنية منفتحة، قائمة على الشراكة والانتماء.
هذه الرؤية المزدوجة – دمج الشباب وتعزيز دور الجالية – تمثل تحولًا نوعيًا في هندسة الفعل الحزبي المغربي، وهي تؤكد على أن التجديد لا يتم فقط من داخل النخبة السياسية التقليدية، بل عبر إشراك فئات كانت سابقًا على الهامش، وتتمتع اليوم برأسمال بشري ومعرفي واقتصادي يؤهلها للمساهمة في صنع السياسات العمومية.
وبهذا التوجه، يسعى الحزب إلى بناء قاعدة اجتماعية متجددة، متنوعة، وعابرة للحدود الجغرافية والاجتماعية، ترتبط بمشروع سياسي إصلاحي طويل المدى، ينفتح على المستقبل دون أن يفرّط في الثوابت الوطنية.
نحو استحقاقات 2026: مسؤولية الحفاظ على الثقة
بينما يقترب المغرب من موعد سياسي جديد في أفق الانتخابات النيابية لسنة 2026، يجد حزب التجمع الوطني للأحرار نفسه أمام تحدٍّ مزدوج: الحفاظ على الثقة التي منحتها له صناديق الاقتراع، وترجمتها إلى نتائج ملموسة تُشعر المواطن بأن التغيير ممكن. فبعد صعود سريع وقيادة حكومية وازنة، لم يعد رهان الحزب هو الفوز بالانتخابات فقط، بل إثبات القدرة على تدبير الزمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي بحكمة واستباقية.
في هذا السياق، تتعاظم المسؤولية السياسية للحزب، لأن سقف انتظارات المواطنين ارتفع بشكل ملحوظ، في ظل استمرار الضغوط الاقتصادية واشتداد التحديات الاجتماعية، خصوصًا فيما يتعلق بالتشغيل، التعليم، الصحة، والقدرة الشرائية. وهنا، لا يكفي إطلاق البرامج والمبادرات، بل لا بد من ضمان نجاعة التنفيذ، وتقييم الأثر، وربط المسؤولية بالمحاسبة، حتى لا تنقلب الثقة الشعبية إلى خيبة سياسية.
كما أن تماسك الأغلبية الحكومية يشكّل عنصرًا حاسمًا في الحفاظ على استقرار الأداء السياسي، خاصة في ظل تعددية حزبية قد تفرز تباينات في المقاربات والتوجهات. ومن هنا، تبدو الحاجة ملحة لتعزيز التنسيق، وترسيخ ثقافة العمل الجماعي داخل الحكومة، بما يضمن انسجام القرار العمومي ويحول دون تعثر الإصلاحات.
وعلى المستوى الترابي، فإن أحد رهانات المرحلة المقبلة يتمثل في تحسين الحكامة المحلية، وتثمين ما حققه الحزب من حضور قوي في المجالس الجهوية والجماعية، عبر تجويد الخدمات، وتطوير آليات التفاعل مع المواطنين، وجعل الجماعات الرافعة الأولى للتنمية المجالية. وهذا ما يتطلب تأهيل النخب المحلية، وتعميم ثقافة التدبير القائم على النتائج.
إن استحقاق 2026 لن يكون امتحانًا انتخابيًا فقط، بل اختبارًا حقيقيًا لمدى رسوخ المشروع السياسي للحزب، وقدرته على الاستمرار كقوة إصلاحية مؤثرة. فالحفاظ على الثقة لا يأتي بالخطاب فقط، بل بالتراكم، والتعهد، والاستمرارية في الإنجاز.
وفي نهاية المطاف، فإن مستقبل التجمع الوطني للأحرار مرتبط بقدرته على تحويل شرعية الاقتراع إلى شرعية الإنجاز، وتثبيت مكانته ليس فقط كحزب أغلبي، بل كفاعل سياسي يؤسس لثقافة جديدة في الحكم، قائمة على الفعالية، القرب، والجرأة الإصلاحية.
بقلم: شطبي عبد الرحيم
النائب البرلماني عن إقليم بني ملال
النائب الأول لرئيس جهة بني ملال-خنيفرة